الفكر
الإسلامي
محاوراتٌ
في الدِّين
(محاضرات نخبة من العلماء
وعلى رأسهم الإمام محمد قاسم النانوتوي في معرض
معرفة
الذات الإلهية المنعقد 7/مايو 1876م في «تشاندافور»
بمديرية
«شاه جهان
فور» بولاية
أترا براديش ، الهند)
(الحلقة 4)
تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي / أستاذ بالجامعة
يُتِمُّ
الشيخ محاضرته التي كانت قد بقيت ناقصة:
لعلَّ بعض علماء المسلمين قالوا: لِيُتِمَّ الشيخ محمد قاسم محاضرته التي كانت قد بقيت ناقصةً بالأمس، ووافَقَهم الأسقف على ذلك قائلاً: «فليبدأ عُلماء المسلمين بالحوار اليوم» فأشار علماء المسلمين إلى الشيخ أن يبدأ على اسم الله وبركته، إلا أنه قبل أن يذهب إلى مخيّم الحوار تقدّمَ إليه القاضي «سرفراز علي» الشاهجهانفوري – الذي كان إقطاعيًا كبيرًا ثم ساءت أوضاعه في ثورة 1857م، وكان عالمًا جليلاً وبارعًا في فنّ المناظرة – وقرأ عليه مقالته التي أعدّها من قبلُ. لايحضرني الآن ماجاء فيها بشكل جيدٍ، أظنُّ أنه كان قدجاء فيها: «لما جاء سيدنا عيسى عليه السلام رسولاً ؛ كفر به اليهود، ثم جاء سيدنا محمد ﷺ رسولاً؛ فكفر به اليهود والنصارى جميعًا. لايحضرني أكثر من ذلك وا أسفاه! ولو حضرني لكان ممتعًا جدًا.
وبالجملة
أنَّ علماء المسلمين قرؤوا هذه المقالة وتسامعوا، واتفقوا على أن تلقى هذه المقالة
كمحاضرةٍ، فقال الشيخ محمد قاسم للقاضي: «تقدَّم
واقرأ المقالة على الحضور»
فتقدّمَ القاضي، فقال له الأسقف: «هل
أنت من الممثلين الخمسة الذين تمَّ اختيارهم لإلقاء المحاضرة؟».
فقال القاضي: لا! فقال الأسقف: فلماذا
تقدَّمت للإلقاء؟ فقال القاضي مشيرًا إلى الشيخ محمد قاسم: إنه مسموح بالإلقاء،
وإنه يسمح لي به. فقال الأسقف: لايلقي إلا هو. فقام الشيخ محمد قاسم لإلقاء
المحاضرة، فقال له الشيخ أحمد علي: «بيِّن فضائل دينك اليومَ ولا توجِّهْ اعتراضًا إلى أيّ دين».
التوحيد:
فتقدّمَ
الشيخ محمد قاسم إلى المنصَّة، وقامَ حيث يقوم المحاضر، وحَمِدَ الله وأثنى عليه،
ثمَّ تصدّى لموضوع التوحيد والرسالة. ولايحضرنِي جيدًا ما قال عن التوحيد والرسالة
في هذا اليوم. وأظنُّ أنَّ حديث اليوم كان أقرب إلى ما قال بالأمس. إلا أنه قال:
المسلمون يتمسكون بالتوحيد لحدِّ أنهم يرون محمدًا ﷺ
أفضل من الجميع بعد الله تعالى . ولا يجوِّزون القيام له واضعًا إحدى يديه على
الأخرىٰ الذي هو أدب من آداب العبادة .
هل
تتوقف النبوة على الأعمال الصالحة أم على المعجزات؟:
ثم
تحدَّث عن الاحتياج إلى النبوة والرسالة، وقالَ ما قاله بالأمس، وخلاصته: يجب أن
ننظر من هو نبي ومن هو ليس بنبيٍّ، ومعرفة ذلك تتوقف على معرفة أساس النبوة
ومبناها، وفيما يبدو أنَّ النبوَّةَ تتوقف إما على الأعمال الصالحة وإما على
المعجزات. أما المعجزات فلا تتوقف النبوة عليها، لأنَّ ذلك يعني أن يظهر المدعي
للنبوة المعجزات ثم يُشَرَّف بالنبوة، ويعلم الجميع أنه لاتُعْطى النبوةُ بعد
الامتحان في المعجزات وإنما تظهر المعجزات على يده بعد ما يُشرَّف بالنبوة. أما
الأعمال الصالحة فلا تتوقف النبوة عليها كذلك ؛ لأنّ العمل الصالح عبارة عن عملٍ
يُرضي الله تعالى، وإنما لمعرفة أحكام الله تعالى نحتاج إلى النبوة، ومعرفة
الأعمال الصالحة والقيام بها تتوقف على النبوة كذلك ، فلماذا تتوقف النبوة على
الأعمال الصالحة؟.
الأخلاق
الفاضلة :
وإذا
نظرنا – سِوَى الأعمال والمعجزات – إلى الأخلاق الفاضلة، وجدنا أنها لاتتوقف على
النبوة، وإنما يُجبَلُ عليها الإنسان، فإذا كان رجلٌ صاحب الأخلاق الفاضلة أي
عاملاً بما يُرضي الله تعالى فكيف لاتلتفت إليه العناية الإلهية؟.
الفرق
بين النبي وأفراد أمته :
والجدير
بالذكر أنه كما أنَّ الشمس، والقمر، والكواكب ، والمرآة المصقولة وذرّات الأرض
المتلالئة تتفاوت في النور فكذلك بنو آدم يتفاوتون في الأخلاق والفهم؛ فالذين هم
بمنزلة الشمس والقمر والكواكب في النور فهم أنبياء، وأما الذين هم بمنزلة ذرات
الأرض المتلالئة فهم أفراد أمتهم، مهما كانوا صالحين أولياء الله .
أخلاق
الأنبياء أصيلة ، وأخلاق أمتهم تابعة :
ثم
إنَّ أخلاق الأنبياء أصيلة ، وأخلاق أمتهم تابعة لها، كما أنَّ أنوار الشمس والقمر
والكواكب أصيلة ، وأنوار المرآة والذرّات والأرض تابعة لها. فالذين أصلاء في
الأخلاق فهم جُدراء بالجوائز والمكافآت؛ لأنهم إذا فاقوا غيرهم كانوا أكثر تقربًا
إلى الله الذي هو أعلى رتبةً من كلِّ شيء. فهم يحظون بالتقرب الذي يجب أن يحظى به
الأنبياء، ويستحقون خلافة الله؛ لأنَّ نيابة الملك وخلافته لايحظى بها إلا من
كانوا مقربين إليه. وما النبوة إلا خلافة الله ، فكما أنّ أحكام من تحت السلطان من
الحكام هي نفس أحكام السلطان فكذلك أحكام الأنبياء عليهم السلام هي نفس أحكام الله
تعالى.
محمد
ﷺ
يفوق الأنبياء في مكارم الأخلاق :
وجملة
القول أنَّ أساس النبوة على كمال كرم الأخلاق، فلما نظرنا من هذه الناحية؛ وجدنا
محمدًا ﷺ
يفوق النّاس جميعًا في مكارم الأخلاق ، وأكبر دليلٍ على كرم أخلاقه هو الجهاد في
سبيل الله – الذي هو موضع اعتراضٍ كبير على الإسلام، مع أنه يُوجَد في الأديان
الأخرى، وأنّه خير وسيلةٍ لتهذيب العالم ورفع الشرك والإلحاد والفتنة والفساد منه
– الذي لم يكن سهلاً ميسورًا له إلا بالجيش الجرار. فكيف أمكن له إعداد الجيش
الجرار الذي دَاخَ الروم والشّام والعراق وإيران ومصر؟. وفيما يبدو أنه يَتِمُّ
إعـداد الجيش بالمال أو الحكومة . أما المال فلم يكن محمد ﷺ
ثريًا ولا تاجرًا ولا إقطاعيًا استأجَــرَ الجيش وغزا الغـــزوات، وأما الحكومـــة
فلم يكن ملكاً ولا أميــرًا ولاحاكماً اكتتب
له رجل أو رجلان من كل بيت فتكَوَّن الجيش شأنَ الحكومات في الماضي، واستولى به
على البلاد. لم يكن إعداد هذا الجيش إلا بكرم أخلاقه . تأتَّر إخوانه بأخلاقه
الفاضلة بحيث أصبحوا يضحون له بنفسهم ونفيسهم وغاليهم ورخيصهم . ولم تكن هذه
التضحية والتحمس ليوم أو يومين، وإنما قضوا أعمارهم مُتَحمسين ومُضَحِّيين له ،
ففارقوا له أهلهم وأسرتهم وبلادهم، وقاتلوا أقاربهم وبني جلدتهم ؛ فقتلوهم أو
قُتِلوا بأيديهم . ألم يكن ذلك بفضل أخلاقه ومحبته؟.
فقد
استأسَرَ – بفضل أخلاقه – العرب العصاة العتاة بشكلٍ لم يعهده أحد أن يستأسر قومًا
ألين طبعًا. فهل كانَ مثلَ أخلاقه أخلاق سيدنا آدم عليه السلام، أو سيدنا نوح عليه
السلام، أو سيدنا إبراهيم عليه السلام، أو سيدنا موسى عليه السلام، أو سيد عيسىٰ
عليه السلام ؟.
كأنَّ
على رؤوسهم الطير :
كان
الشيخ يلقي محاضرته، وإذا النّاس كأنَّ على رؤوسهم الطير، وكانوا آذانًا مصغيةً،
وعيونًا باكيةً، وإذا الأساقفةُ ساكتون لاحراكَ بهم، فلما أبلَغَ الأسقف الشيخَ
بأنَّ دوره قد انتهى، بقي في نفوس السامعين حسرة لم تُقْضىٰ، فقال الشيخ
محمد قاسم: أيها الحضور! أنا معذور لقلَّة الوقت، وإلا استمررت في الإلقاء حتى
المساء، وما قُلْتُ أنه غيض من فيض. فقال الشيخ موتي ميان: «اسمعوا
أيها الناس، ما قال هو غيض من فيض».
يستدل
الأسقف «نولس» على التثليث مع التوحيد بدلائل سخيفة:
عاد
الشيخ محمد قاسم إلى مجلسه، ثم قام الأسقف «نولس»
وقال: «إنَّ
عقيدة التوحيد عند المسلمين أمر محمود، وليتهم اعتقدوا التثليث مع التوحيد»
ثمَّ استدل على إثبات التثليث بنصٍ من كتاب في العهد القديم، وقال: «إنَّ
هذا الكتاب يَنُصُّ على ثبوت التثليث»
ثمَّ استدل بدلائل عقلية، وزعَمَ أنه لايمكن فهم التوحيد بدون التثليث، فمثلاً
لفظة الواحد «1»
يشتمل على الطول والعرض والعمق. فهذه اللفظة واحدة لايمكن وجودها بدون هذه
الثلاثة. وروح الإنسان، فيها الهوىٰ، والخيال، وشيء آخر نَسِيْتُه، فالروح
واحدة، وهي لاتتحقق إلا بدون هذه الثلاثة. والشجر واحد، وفيه الأصل، والغصون،
والأوراق. فهو لايكون بدون هذه الثلاثة .
الأسقف
يُوَجِّهُ اعتراضًا على عقيدة القدر في الإسلام :
تحدَّث
الأسقفُ عن ثبوت التثليث بأحاديث مضحكة، ثمَّ تعرَّضَ لعقيدة القدر عند المسلمين،
وقال: إنَّ في الإسلام نقيصةً أخرىٰ ، وهي عقيدة القدر، واستدل بالقرآن ؛ حيث
قال تعالى: «هُوَالَّذِيْ
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَّمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ».
وذلك يعني أنَّ الله تعالى خلَقَ الناس فيكون بعضهم مؤمنين وبعضهم كافرين .
يفتح
الشيخ محمد قاسم النانوتوي على الأسقف :
فقال
الشيخ محمد قاسم للأسقف أثناء حديثه: أريد أن أقول شيئًا، ثم تحدث أنت، «قد
وجّهت إليَّ اعتراضًا بالأمس قائلاً: «إنّك
لم تُبيِّن فضائل دينك، واعترضتَ على ديني»
وقد سلكت اليوم نفس المسلك، ثم إن تعرُّضك لعقيدة القدر يدل على فشلك ومغلوبيتك.
وآخر حيلة يحتالها الأساقفة أنهم إذا انسَدَّ في وجوههم المسالك، تعرَّضوا لقضية
القدر زاعمين أن المسلمين لايحيرون جوابًا. غير أني أسمح لك بطرح الاعتراض، وأنا
أجيب إن شاء الله، ثم قال، تحدَّث .
الأسقف
«نولس» ينهي حديثه الباقي :
تحدَّث
الأسقف عن الموضوع قائلاً: «فإن
سلَّمنا بالقدر كان العبد بريئًا، والله تعالى ظالماً ؛ لأنه كتَبَ لكثيرٍ من
الناس النار قبل مدة طويلة، وعملوا هم وفق ما كتب، وكان له أن لايخرجهم من النّار
ولا يُدْخِلَهم فيها، وإنما كان عليه أن يتركهم وشأنهم. على أنَّ النّاس كلهم
سواسية كأسنان المشط، فكما أنهم سواسية في اليد والرجل والعين والأنف والأذن فكذلك
أنهم سواسية في الأرواح. والكفر والإيمان طارئان عليهم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر.
لطيفة
:
عندما
كان الأسقف يقول: إن الناس كلهم سواسية في العين والأذن والأنف قالَ الشيخ نعمان:
يا أيها الأسقف ! إلا أنت وأنا؛ لأننا أصلعان. أو قال مثل ذلك رجلٌ من المسيحيين .
فتبسَّم الأسقف، وأغرق في الضحك المعلم «جعل»
ومن حوله من المسيحيين .
فَشِلَت
الحيلة :
تحدَّثَ الأسقف وأطنبَ حتى انقضت مدة خمس
عشرة دقيقةً، فزعم أنه لم يكمل حديثه، والتفت إلى الشيخ محمد قاسم قائلاً: «لوتفضَّلتم عليّ ببعض الوقت لتحدثتُ بمزيد من الحديث» لم يرض المسلمون بأن يوسَّع له في المدة، لأنه لم يوسع لهم
فكيف يوسعون له؟ وخير أن يكون حديثه ناقصًا، إلا أنَّ الشيخ محمد قاسم فكَّر بأنه
إن وسَّع له في المدة فهو يوسع له كذلك، ولا يكون له متسع بأن يقول لوكان لي سعة
في الوقت لأشبعت الاعتراض بحثًا ولكشفت اللثام عن الحقيقة. فقال الشيخ: يا أيها
الأسقف لسنا مثلكَ، فنحن نوسع لك، فلك أن تتحدث مكان خمسة عشر أو عشرين أو خمسة
وعشرين أو ثلاثين دقيقةً، وتتحدث ما بدا لك، وأنا أقوم بالإجابة عن جميع ما توجه
إلينا من الاعتراضات .
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية - رجب
1427هـ = يوليو - أغسطس 2006م ، العـدد : 6-7 ، السنـة : 30.